مراجعة التحفة التلفزيونية Succession

 


إِنَّ الأَفاعي وَإِن لانَت مَلامِسُها

عِندَ التَقَلُّبِ في أَنيابِها العَطَبُ


بين الجيل والآخر أو العقد وتابعه يحضر أمام أعيننا عملاً تلفزيونياً يعيد صياغة التلفاز من جديد وينقل الشاشة الصغيرة إلى مستوى أعلى ونحو تحديات أكبر من تلك التي سبقتها

فمثلاً وكما قرأت بأن مسلسل The Twilight Zone هو الذي بدأ تلكم الطفرة في المسلسلات بأفكاره المبتكرة والخارجة عن المألوف، أيضاً كان مسلسل Twin Peaks هو صاحب طفرة كبيرة عام ١٩٩٠ قادها لينش بجنونه وكوابيسه فجعلت الشبكات تطمح في صناعة عمل يصل إلى نفس مستواه، ثم أتى مسلسل The Sopranos ليعلن أن تلفاز الألفية يختلف كلياً عن تلفاز ما قبل الألفية وهو ما أكدته شبكة HBO المنتجة للعمل بعدما قدمت لنا مسلسل The Wire والذي كان جزءاً مفصلياً من هذا التغيير إلى أن وصلنا إلى عصر Breaking Bad وزمن فينس جيليجان الذي استطاع فعلياً أن يجعل ما قبله من أعمال مجرد ماضي وما بعده من أعمال تبقى عالقة في الزمن الذي صنعت فيه حيث كان العمل الذي حول دفة التلفاز بالكامل تجاه رؤية مختلفة لم يسبق أن صنع فناناً ما عملاً فنياً يضاهي جماله أو نصفه أو ثلثه..

لكن التحدي الذي وُضع فيه جيسي أرمسترونج كان أكبر من الجميع، فأن تشرع في صناعة عملاً يغير من نظرة الناس للتلفاز ويرفع سقف الدراما من جديد عقب انتهاء عالم البوكركي وفي زمن سيطرت فيه آفات اليساريين على الصناعة في هوليوود وأصبحت الأجندات الشاذة مقياس الولاء وتمجيد السود معيار الجوائز، أصبح التحدي صعب بل وأحياناً من دروب المستحيل بأن تصنع رؤيتك الخاصة الخالية من أي إملاءات والنابعة من منظورك الشخصي والمستوحاة من واقع حياة يود هؤلاء أن يصنعوا نقيضاً له..

فلنصفق أولاً وقبل أي شئ لصناع هذا العمل ونجود بالتصفيق عند جيسي أرمسترونج الذي نجح في ذلك التحدي وبدأه من الصفر إلى النهاية بنسبة نجاح ١٠٠٪


إن مسلسل Succession يا حضرات لا أستطيع أن أصف حلقاته وأحداثه وصراعاته وتطوراته وشخصياته وجميع عناصره بالوصف الكافي المعبر عما بداخلي له، لكنني أحاول جاهداً ألا أبخس هذا العمل حقه بألا أوفر كلمة مديح واحدة أعلمها إلا وذكرتها عنه..


لم أجد بيتاً شعرياً يرثي حالتنا بعد فراق المسلسل، فالفراغ الفني الذي وضعنا فيه لم يضعنا فيه وهنا أتحدث عن نفسي - سوى إنتهاء مسلسل Breaking Bad، فراغ عجيب يضفي وحشة في ساعة الترفيه فلا مسلسل أو فيلم يقدر على ملأ تلك الساعة مهما حاول صناعه أن يبتكروا أو يخترعوا، فالقلب ينزف بعد فراق الحبيب ويهيم حزناً بعد غياب الرفيق..


عالم أرستقراطي إستوحاه جيسي أرمسترونج من أحداث حقيقية وشخصيات واقعية جزم البعض أنها مرتبطة بحياة إمبراطور الإعلام روبرت مردوخ والذي تتشابه وتتقاطع الكثير من الأحداث في المسلسل مع الأحداث في حياته بينما اعتبر البعض الأخر بأن أرمسترونج قد أخذ من كل بستان زهرة فمزج بين عدة أحداث لعدة شخصيات رأسمالية هامة وأضفى عليها قطرات من مخيلته فجعلنا نعيش ونرى حياة هؤلاء عن قرب وكأننا طرف ما من الأطراف بداخل القصة..


لوجان روي الرجل العصامي الذي بدأ وأخوه من الصفر إلى القمة لكنهما افترقا بعدما اختلفا حول الصواب والخطأ وبين ما هو إنساني وما هو وحشي ليبدأ لوجان رحلته منفرداً ويصنع إمبراطوريته ويتوج نفسه عليها حاكماً تتخطى سلطته حكومات من الدول ويهابه الجميع ويخشى شره أقرب الناس إليه

وبعد أن يصل إلى أرذل العمر ويقترب من عتبات القبر لا يجد أمامه سوى اختيار أحد أبنائه ليكون خليفته في حكم تلك الإمبراطورية الذي يرى كل واحد فيهم بأنه الأحق بها 


هي عائلة قذرة حقاً وإن تعاطف مع شخصياتها الملايين، أفرادها نشأوا وترعرعوا على دماء الفقراء وأحلام البسطاء، نبتت أجسادهم من كل أنواع المنكرات والموبقات ومات على قهقهة ضحكاتهم الملايين من الأبرياء في بقاع الأرض التي ساعد لوجان روي في أن تتحول إلى محارق بشرية نتيجة حروب شنها إعلامه وتغنت بموتاها قنواته


ربما أشفق على أولئك الأبناء الذين لم يكن لهم ذنب سوى أن أبوهم هو أقذر أب لا يتوقف عن استغلالهم والتلاعب بهم كحية تتراقص مع ضحاياها قبل أن تقضي عليهم، لقد وجدوا أنفسهم في تلك القذارة وتلطخت بها أيديهم وأنفسهم وأفئدتهم حتى نجد أطيب من فيهم يود لو أن يكون ملكاً لتلك القذارة


ومن موسم إفتتاحي بُني فيه عالم الأحداث في حلقات خمس أولى تبعتها حلقة سادسة مفصلية رفعت من مستوى المسلسل إلى درجة الغليان ولم ينزل مستواه أو يتقهقر حتى نهاية الموسم والمسلسل ككل، تبعه موسم أكثر قوة وحدة بنهاية Cliff-Hunger هي أقوى ما شاهدت ليجئ موسم الصراعات والمواجهة الذي تنقلب فيه الأحداث رأساً على عقب حتى نصل إلى الموسم الرابع والأخير الذي اختبرنا معه جميع المشاعر بين ضحك وفرح وفجعة وبكاء وحزن وفقد وترقب وتشويق مع حلقة أخيرة انتهى معها المسلسل بأفضل نهاية ممكنة لتبقى في أذهاننا لا تنسى دونه كاتب التاريخ بأحرف بلاتينية.. 


إن من الظلم البين والباطل الفج أن يترشح ممثلي هذا المسلسل إلى جوائز التمثيل سواء أفضل ممثل أو أفضل ممثلة أو أفضل ممثل مساعد أو أفضل ممثلة مساعدة أو حتى أفضل ضيف شرف، لأن ما شاهدناه في Succession لم يكن بتمثيل بل هو ابتكار نوع جديد من التشخيص يرقى في تعريفه إلى مستوى الارتجال، فنحن لم نشاهد لوجان روي على الشاشة بل شاهدنا برايان كوكس كما هو وراء الشاشة، ولم نشاهد كيندل أو رومان أو شيف أو كون أو توم أو كريج بل كنا نشاهد أولئك الممثلين يتكلمون ويتأتون ويتلعثمون كما لو أنه لا يوجد حوار مكتوب للشخصية ويتحركون ويتفاعلون كما هم في حياتهم الحقيقية وهو أمر مختلف وغير مألوف ساهم في رفع أسهم هذا العمل إلى سقف بورصة الأعمال التلفزية


لا أريد أن أتوغل كثيراً في الكلام - على أساس إني ما توغلت 🤨 - حتى لا أحرق أحداثاً على من لم يظفر بمشاهدة تلك التحفة التلفزيونية والتي أقولها وبكل إنصاف بأنه العمل الأفضل في تاريخ مشاهداتي التلفزيونية رفقة ملحمة فينس جيليجان في تحفته Breaking Bad 


🌟🌟🌟🌟🌟


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مراجعة فيلم مندوب الليل

مراجعة فيلم كيرة والجن