مراجعة فيلم مندوب الليل



"دومًا ما كنت أرى مدينة الرياض مظلومة في الأعمال الفنية، فهي لا تقل جمالًا عن مثيلاتها في البلاد العربية، تتوسع من بيوت تراثية إلى أحياء جنوبية ثم تتمدد شمالاً بتصاميم عصرية لتزدهر الآن وما حولها فتكتب حاضرًا يشق طريقه نحو مستقبل لا يقل أبدًا عن ماضيها العريق..

حتى جاء علي الكلثمي ورفع عنها ذلك الظلم الفني فكشف الحجاب عنها لأرى جمالها بعدسة الكاميرا تمامًا مثلما أراه أنا بأم عيني، وأخص بالذكر جمالها في الشتاء وهو الفصل الذي اختار الكلثمي أن تدور أحداث قصته فيه فتتعانق الأجواء الباردة بواقع (فهد) الملتهب والذي كلما ظن أن جمره قد انطفأ إذا بالحياة تنفث فيه نارًا من حيث لا يحتسب"


حبذت لو اكتفى علي بكلمة مندوب فقط من دون الليل لتصبح هي عنوان الفيلم، فالمندوب كما عرفه الكلثمي هو المسئول عن توصيل شئ ما أو من مات وندبه أهله بعد موته أو تعيس الحظ الذي يندب حظه أو الشخص الذي أصابه حادث فترك فيه جرحًا يظل مرافقه فيما تبقى من حياته، ولا يوجد مكان على وجه الأرض أو زمان على مدى الدهر يخلو من ذلك المندوب تعيس الحظ، جريح القلب الذي يموت شيئًا فشيئًا حتى إذا مات كله قال عنه الناس "مات"..


رؤية المخرج:

أيها السادة نحن أمام رؤية إخراجية سعودية خالصة للمجتمع السعودي بقلم ورؤية وإخراج سعودي نقي لا تشوبه شائبة تنميط مزيفة أو شبهة تنظير زائفة، أو مثلما يقال "اسمع مني ولا تسمع عني"، وكما أن المجتمع المصري لا يحسن تصوير أوجاعه إلا المصري فإن المجتمع السعودي لن يحسن تصويره إلا السعودي نفسه.. 

علي الكلثمي هو واحد من جيل كامل من الذين كانوا صوت الشباب السعودي على موقع يوتيوب عبر سكتشات كوميدية وواقعية بأدوات تصوير بدائية وغير احترافية لكنها كانت تناقش مشكلات الشباب واحلامهم وطموحاتهم وهمومهم وضحكاتهم وجلساتهم في مقاطع قصيرة نالت شهرة واسعة وحازت على إعجاب الكثير، بالتالي صنع ذلك ارتباطًا وثيقًا بينهم وبين أولئك الشباب الذين نشأوا وترعرعوا على مقاطعهم ومع النهضة السينمائية في المملكة أصبح صناع المقاطع على اليوتيوب سابقًا هم رواد الصناعة السينمائية السعودية الحديثة حاليًا فيترقب المواطنون انتاجاتهم ويتلهفوا لمتابعة أعمالهم ثم يقيم كل منهم العمل الذي شاهده بمعايير خاصة تتلاقى فيها نوستالجيا البدايات مع مبادئ صناعة الأفلام والمسلسلات وهي المعايير التي كان يفشل فيها معظمهم في نظر محبيهم، نظرًا لعدم امتلاكهم خبرة كافية في التفرقة بين الفيلم السينمائي وبين الاسكتش أو المونولوج اليوتيوبي، ومثلما توقعت فإن الكلثمي لم يكن ليفشل بل ربح التحدي وقدم لي أفضل فيلم سعودي شاهدته حتى الآن وعن جدارة.. 


القصة - السيناريو - الحوار:

لا يوجد أي تشابه أو تأثر أو حتى اقتباس من فيلم Taxi Driver كما ادعى بعض المحنيكين، بل على العكس تمامًا فالقصة أصلية وحدثت وتحدث وستحدث، فكم من شاب تورط في مسئولية جعلت من عاتقه طوق نجاة يتعلق فيه جميع أفراد أسرته، وكم من رجل فاته قطار الزواج لتكريس حياته في إسعاد إخوته، وكم من وحيد علق نفسه في حبال قصة حب ذائبة لم تكن لتصلح إلا في خياله، هي ليست قصة فهد فقط بل هي قصة فهد وعبدالله وزيد وعمر وشباب كثر طمعوا في الحياة الدنيا لكن دنيا الحياة لم تكن لترغب فيهم من الأساس، طمع ورغبة لا يلتقيان أبدا أبدع علي الكلثمي في ربط قصتيهما بسيناريو قوي متماسك وإن فرغ لبضع دقائق لكنه كان يعود فيتماسك من جديد وكأن علي قد كتب عدة سكتشات مختلفة ومتفرقة ثم ربط بينها وبين بعضها ليجمعهم سويًا بقصة فهد والذي حملت قصته حوارات واقعية عفوية غير متصنعة ولا متكلفة بل وصلت في بعض الأحيان إلى قمة الكوميديا السوداء وتحديدًا في مشهد حمام المطعم الذي حمل حوارًا يبدو في ظاهره أنه مضحك لكنه في الحقيقة كان شر بلية قد ابتلي بها صاحبها..


التمثيل :

مثلما أوردت الأسطورة حمل أطلس للكرة الأرضية على ذراعيه فإن محمد الدوخي قد حمل الفيلم بالكامل على ذراعيه وعاتقه وعبر نظرات عينيه ومن خلال تعبيرات وجهه وبصوت صرخاته وتنهيدات أنفاسه ورجفان قلبه واختلال نفسه، آداء أسطوري من أفضل اداءات السنة منذ مشهد البداية العبقري ومشهد النهاية الواقعي مرورًا بكل دقيقة قدمها محمد على الشاشة بتمثيل استثنائي مبهر، أما بالنسبة لباقي الممثلين فتفاوت الأداء بين الجيد والضعيف جدًا ولربما تعمد الكلثمي ذلك لكي يصبح التركيز بالكامل على شخصية فهد كونه بطل تلك الحياة وباقي من يظهر فيها ليسوا إلا بمثابة اللاوعي الذي يصاحبك في المنام.. 


الإضاءة والتصوير:

هما العنصرين الأكثر تميزًا طوال أحداث الفيلم حيث شاهدنا ليل الرياض الشتوي كما نشاهد ليل مدينة سان فرانسيسكو في أفلام المخرج مايكل مان، صورة نقية وكادرات ساحرة تجعلك تستشعر نفسك واحدًا من أبطال الفيلم رغم أنك لست كذلك 


الموسيقى التصويرية :

لم يحتوي الفيلم على موسيقى تصويرية خاصة به سوى في نهايته بشكل واضح وبمعزوفة أرمينية حزينة تختلط بموسيقى الشرق العربية وكأنها تجسد لنا إسم الفيلم عبر نغمات متواترة متناثرة تنعي بعضها بعضًا وتندب أخراها أولاها.. 


سلبيات الفيلم :

هي لا ترتقي لكي تصنف كسلبيات لكن لنسمها نصيحة أو تنبيه وجب التنويه عنه كي لا يتم إهماله في الأعمال القادمة :


١ - عند تقديم عمل درامي واقعي يتوجب على صانعه أن يهتم بالتفاصيل كونها تساهم بشكل كبير في بناء عالم الفيلم في مخيلة المشاهد بالتالي لا يصلح أبدًا أن نجد رقم هوية من ٥ أرقام فقط بدلاً من ١٠ أرقام ولا يبدأ برقمي ١ و صفر مثل الواقع أو يكون رقم الجوال ٨ أرقام فقط وليس ١٠ أرقام مثل الواقع، تفاصيل تبدو في ظاهرها بسيطة لكن عدم الإهتمام بها مبكرًا قد يحولها مستقبلاً إلى ثغرات في السيناريو تضعف من مستوى العمل ككل لذا وجب التنويه عنها. 


٢ - زيادة فصول القصة لكي تتناسب مع مدة الفيلم وبما أن مدة الفيلم قد قاربت الساعتين إلا ربع تقريبًا فقد توجب على المخرج أن يجعل كل فصل من فصول القصة يحتوي على أكبر عدد ممكن من المشاهد من دون مط أو تكرار وبزخم من الأحداث مهما كان رتمها. 


خاتمة :

الشغف هو وقود السينما وهو يراود صناعها مثلما يتملك مشاهديها وبما أن المملكة تشق طريقها نحو تلك الصناعة فإن الشغف الذي يمتلكه كتابها ومخرجيها وممثليها يكفي لبداية سينما جديدة تنافس أخواتها من السينمات العربية ولم لا نرى يوماً ما موجة سينمائية سعودية يتحاكى بها الناس مثلما تحاكوا بغيرها .. 


🌟🌟🌟🌟


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مراجعة التحفة التلفزيونية Succession

مراجعة فيلم كيرة والجن