مراجعة مسلسل Barry



"حَكِّم سلاحك في رقاب العُزَّلِ

 وإذا نَزلتَ بِدارِ ذُلٍ فارحلِ 

 وإذا بُليتَ بظالمٍ كُن ظالما 

 وإذا لَقيتَ ذَوي الجهالةِ فاجهلِ

هي أبيات قالها عنترة بن شداد وتصرفت أنا فيها ونفذها على الشاشة باري بينكمان"

لا يزال فيلم Taxi Driver هو أفضل عمل شاهدته لمارتن سكورسيزي وتحفته المثالية التي لا أمل من تفاصيلها أبداً، كذلك شخصية ترافيس بيكل هي الشخصية الأفضل في مسيرة النجم روبرت دينيرو الذي أبدع في تقمصها إلى درجة اقنعتني أنه وبالفعل مصاب بإضطرابات ما بعد الحرب، ذلك المرض النفسي الذي يصيب نسبة من الجنود عقب عودتهم من ميدان المعركة حيث تسيطر عليهم ضغوطات الحرب ومشاهد القتال والخوف من الموت والسعي في الإنتقام إلى درجة تدخلهم في نوبة هلع تشبه نوبات الصرع الكبرى..

ورغم كل ذلك المديح الذي انهال من قلمي على فيلم Taxi Driver لكنه صنع فراغاً في داخلي لم يتمكن شغفي من تحمله حتى كاد يلتهمني الفضول لملء ذلك الفراغ الذي صنعته شخصية ترافيس بيكل، ذلك الفراغ الذي بدأ بفكرة أو تساؤل حول ما إذا تعمقنا أكثر في أولئك المرضى المصابين بهذا الاضطراب، وما إذا لم يتحكموا في تلك النوبات فتتطور معهم إلى شئ ما غير مألوف..

حتى توقف فضولي عن البدء في التهامي أنا وشغفي عندما قررت أن أشرع في مشاهدة مسلسل الكوميديا السوداء Barry..

باري بينكمان أو باري بلوك كما تقدم في الأحداث هو جندي سابق في المارينز عاد من أفغانستان مذموماً مدحوراً، ومجلوداً كذلك من الشعب الأفغاني الذي وقف أمام محتله الأبيض بمنتهى الشجاعة والاقدام حتى سبب له هلعاً يبدأ بماضي مرعب يطارده وينتهي بنوبة غضب وهلع تجعله إنسان غير سوي عقلياً ونفسياً.. 

يظل باري مشتتاً بعد عودته وتلقيه علاجاً نفسياً لفترة ما حتى يلتقي بصديق عمه المحتال مونرو والذي يقنعه بالعمل معه كقاتل مأجور من أجل القضاء على أناس أشرار مقابل مبالغ مالية يدفعها لهم من عينهم للقيام بهذا العمل القذر..

نرى باري كالدمية المعلقة بخيوط يتلاعب به النصاب مونرو كما يحلو له، لكنه لم يضع في الحسبان أن تلك الخيوط كانت رفيعة إلى درجة يمكنها أن تنقطع عند أول ضربة وبالتالي يعود باري لامتلاك زمام حياته من جديد.. 

صدفة من الصدف التي لا تنتهي والتي يعج بها المسلسل طوال مواسمه دفعت باري إلى دخول صف تمثيل مسرحي ألهم الجزء المريض منه بأن التمثيل هو العلاج والدواء لحالته بل والغاية التي كان يبحث عنها ليعيش حياته كإنسان طبيعي مرة أخرى.. 

وعند هذه النقطة يبنى عالم المسلسل حجراً حجراً بأحداث سريعة دموية عنيفة وبالتأكيد لا تخلو من الكوميديا..

قد يعتبر أحدكم أن ما ذكرته هو حرق للأحداث لكن على العكس تماماً هو مجرد مشاهدين أو ثلاثة من حلقة واحدة من بين حلقات مواسمه الثلاثة، وهنا تكمن ميزة المسلسل الأولى.. زخم الأحداث..

في كل حلقة من حلقات الموسم الأول كان بيل هيدر يتفنن في كتابة وإخراج نص منفصل من ناحية السيناريو ومرتبط من ناحية الحبكة مع القدرة على ابتكار أفكار جديدة يقدمها لنا كمشاهدين في قالب واقعي سوداوي يدفعنا للضحك سواء قصد بيل هذا أم لا.. هذا الموسم والذي كان بجدارة هو الموسم الأفضل بل وأحد أفضل المواسم التي شاهدتها على الإطلاق.. 

لكن لهذا السبب حدث ما لم أتوقعه أو أتمناه..

موسم ثاني مخيب الآمال في أشياء كثيرة - عدا الحلقة الخامسة - ملئ بالأفكار الرائعة والمكتوبة على الورق بأسلوب ذكي لكن تنفيذها على الشاشة لم يقنعني كمشاهد بل على الأقل لم يتم تنفيذها بالشكل الأمثل على الشاشة - عدا الحلقة الخامسة - مع إفتتاحية موسم غير مقنعة ومبتذلة وكرنجية - عدا الحلقة الخامسة - إلى أن تطور الأمر وارتفع مستوى الكرنج إلى مستوى الأفلام الهندية وكأن أميتاب تشان قد تجسد في شخصية باري يقتل الأعداء دون أدنى شظية من الرصاص تصيبه أو تقترب من جسده - عدا الحلقة الخامسة - فكل ما في الموسم كان مخيباً بالنسبة لي عدا الحلقة الخامسة منه والتي تستحق كل المديح الذي كنت أنتظر توجيهه نحو الموسم ككل ولولاها لصنفت الموسم بأنه سئ للغاية.. 

في الموسم الثالث الذي انقضى منذ أيام عدة واجه في نصفه الأول نفس المشكلة التي تواجدت في الموسم السابق مع كمية من الصدف السخيفة مضاف عليه الخط القصصي الخاص بهانك وكريستوبال حيث لا فائدة لكلا الشخصيتين سوى إشباع رغبة لجان الجوائز برؤية عناصر شاذة في المسلسل لكي يظفر بترشيحات كبرى في موسم الجوائز، كما أن مشكلة التنميط الهوليوودي دائماً بربط الغباء والحماقة والسذاجة مع العصابات الروسية واللاتينية دائماً وأن العصابات الأمريكية فقط هي من يحمل أفرادها مستوى ذكاء ليفيل آينشتاين هو كليشيه كتابي رخيص لا يصلح حتى في مسلسل هزلي ساخر.. 

لكن مع النصف الأخير من الموسم نرى المسلسل يعود إلى نقطة الاتزان التي كان عليها في موسمه الافتتاحي بأحداث أفضل وكتابة أرقى ومستوى من الابتكار والتنفيذ على حد شبه متكامل ثم نصل إلى نهاية موسم حماسية رغم كونها Cliff Hanger وهي أكره شئ يود أن يجده محبي أي مسلسل لن يعرض موسمه الجديد ويحل ذاك الكليف إلا بعد عام أو أكثر.. 

آداء بيل هيدر في المسلسل كان رائعاً، فقد شاهدت موهبة كبيرة لدى هيدر لكنه يظلمها بظهوره في أدوار ثانوية وأحياناً شبه شرفية، نظرات عينيه الجاحظتين، تقلب مزاجه بين الهدوء والغضب، قراراته الغير متوقعة وسعيه الدؤوب للهروب من ماضيه العنيف، كل تلك الأمور أتقنها بيل بطريقة تستحق كل كلمات الإشادة.. 

أيضاً آداء ساره جولدبرج والتي جسدت شخصية سالي الممثلة الصغيرة التي ترغب في أن تكون نجمة تلفزيونية في يوم وليلة، مهما كلفها ذلك أو مهما آذت من أشخاص، إمرأة ترى نفسها أفضل ممن حولها لكنها لا ترى مساوئها المخبوءة تحت ذلك القناع التمثيلي الكاذب الذي ترتديه أمام باري وأمام الجميع.. 

أما الآن فسوف أقف لكي أحيي وأصفق وأرفع قبعتي إلى الممثل الكبير هنري وينكلر والذي كان أستاذاً في التمثيل والتقمص طوال الحلقات وفي كل المشاهد التي ظهر فيها تسبب لي في أن أتسلطن على آداءاته التمثيلية بين هزل ومزح وحزن وغضب وديكتاتورية وتكبر، لقد وصل إلى درجة من التقمص تجعلك لا تعرف هل هو يمثل أم أنه كذلك فعلاً.. 

مسلسل Barry رغم كل ما ذكرت من سلبيات وانتقادات إلا أنه مسلسل ممتع خفيف ومن الأعمال التي أتأمل في مواسمها القادمة بأن ترضيني كمشاهد.. 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مراجعة التحفة التلفزيونية Succession

مراجعة فيلم مندوب الليل

مراجعة فيلم كيرة والجن